آراء وتحليلات

أنديجان.. بعضٌ من تأريخ “ظهير الدين بابر

اقتصادنا 18 يوليو 2020

بقلم: عبدالعزيز قاسم اعلامي وكاتب صحافي

“مقالتي اليوم، مقتطفة من كتابي الجديد في أدب الرحلات “أوزبكستان منجم العلماء -سياحة في بلاد الإمام البخاري”

تقف مأخوذًا متفرّسًا في تلك الملامح القاسية لفارسٍ عليه لامة الحرب، يمتطي فرسًا ترفع قوائمها، كما فرسان القرون الوسطى، وتتعجب من مكنة ذلك الفنان الذي صمّم هذا النصب الكبير للفارس في قلب مدينة أنديجان، هناك في ساحة رائعة هي كعبة السياح لمن زار المدينة.
تسمع الدليل الأنديجاني الذي معك، يتكلم بكل الفخر والتيه: هذا تمثال السلطان الأعظم، والخاقان الأكبر، نادرة الزمان الملك “بابر”.

تفتش في ذاكرتك الملأى بالشخصيات والقادة والملوك، علّك تظفر بمعلومات تنجدك أمام رفقتك، فلا تسفّ إلا الفراغ. ليس ثمة ما تتذكره أبدًا عن سلطان عظيم بهذا الاسم، لتكتشف خيبتك الكبرى، ويتلفعك الخجل من ضآلة ما لديك، بل من خلوك كاملًا عن ملكٍ من ملوك الإسلام الكبار، وقائدٍ متعددٍ المواهب، حفظ التأريخ بطولاته، وسلطانٍ حَكم شبه القارة الهندية وسلالته، طيلة ثلاثة قرون كاملات، وتذهل كيف أنه استطاع باثني عشر ألف رجل أن يكسب معركة حاسمة من معارك الإسلام الخالدة هناك مع الهندوس الذين كانوا في مائة ألف مقاتل، لينشئ مملكة هي اليوم باكستان والهند وبلاد البنغال مجتمعة.

تعود تتأمل في نصب هذا الخاقان الأكبر -الذي يفاخر به أهل مدينة أنديجان في جمهورية أوزبكستان- كونه ولد في هذه المدينة الرابضة على وادي فرغانة، وتذهل مما سجله المؤرخون عنه، وقد قالوا عن قوته الجسمية، أنه كان يستطيع حمل رجلين، كلُّ رجلٍ بذراع، والسير بهما مسافات طويلة، وأنه عبَر كل نهرٍ صادفه سباحة، وعبَر نهر “گنگا” في ثلاث وثلاثين ضربة بذراع، وكان مشهورًا بطول ذراعه، وكان يتسلق الجبال العالية، ويستمر على ظهر حصانه لمسافة ثمانين ميلًا، دون أن يدركه التعب.

تعطي نصب السلطان “بابر” ظهرك، وتمضي عنه بكل الانبهار، وتتجه لرفقتك المنتظرين بخطى مثقلات، لا تود أن تفارق الموقع، وأنت سادرٌ في خيالك، تعيش تفاصيل ذلك التأريخ الذي حارب فيه ذلك السلطان، وتقرأ بكل تعجب -عبر جوالك الذي تلوذ فيه للعم قوقل ليسعفك بمعلومات عنه- كلمات “ول ديورانت” (فيلسوف أمريكي)، الذي وصف بها هذا السلطان العظيم، وتزدرد ريقك، وتتعجب، وتتأسى أنك لم تسمع به قط قبلًا: “وهو يشبه الإسكندر كل الشبه في شجاعته وجاذبيته، ولمّا كان سليل تيمورلنك وجنكيز خان معًا؛ فقد ورث كل ما اتصف به هذان الحاكمان، اللذان ألهبا آسيا من قدرة، دون أن يرث ما كان لهما من غلظة القلب”.

مدينة أنديجان هاته التي أجوب في شوارعها وأزقتها، تغيّرت عليّ بالكامل، وأنا التي زرتها قبل ثلاثين عامًا، فقد تطورت بشكل كبير، وباتت اليوم مدينة حديثة بها أكبر مراكز البحث العلمي والصناعي والتعليمي في وادي فرغانة، ويتميز أهلها بجمالهم وبياضهم الذي يضرب به المثل في تلك الأصقاع، وطبعا لها تأريخ قديم إذ قال ياقوت الحموي عنها: “هي من قرى فرغانة، وينسب إليها أبو حفص عمر بن محمد بن طاهر الأندكاني الصوفي، كان شيخًا مقرئًا عفيفًا صالحًا عالمًا بالروايات، مات بقرية قلشان في جمادى الأولى سنة ٤٥ ٥ هـ”.

دمّر مدينة أنديجان زلزال وقع فيها في عام 1902م، وكذلك دمّرها “جنكيز خان” إبان غزوه الهجمي للعالم، وقتل أهلها لأنها صمدت أمامه، وفعل ذلك مع معظم مدن آسيا الوسطى التي كانت تقاومه، وكان جبارًا يسحق بالكامل من لم يستسلم له، ويدمّر مدينتهم بيتًا بيتًا.

وبالمناسبة، القائد العربي الشهير قتيبة بن مسلم الباهلي الذي فتح كل هذه البلاد؛ قتل هنا إبان منازعته للخليفة الأموي سليمان بن عبدالملك، وقيل أنه مات في عهد عمر بن عبدالعزيز. على كلٍّ؛ لفاتح هذه البلاد ضريح في ضواحي أنديجان، في قرية “باختاكور” التي تبعد ثمانية وعشرين كيلو مترًا، إلى الجنوب الشرقي من مدينة أنديجان، مع الحدود وقرغيزستان، وللأسف الشديد بسبب الوقت الضيق، لم يتح لي الذهاب إلى مقبرته، التي وصفت بأنها ذات بناء إسلامي بسيط، تعلوه قبة ولكنها خالية من الأبهة التي رأيناها في سمرقند مع تيمورلنك، وباقي الآثار في تلك المدينة وبخارى وخوارزم.

سأعود لسيرة السلطان “ظهير الدين بابر”، الذي ولد في أنديجان، وكتبت بالتفصيل عنه في كتابي الجديد عن أوزبكستان، وأود أن أقرّب لكم الصورة، إذ سمعنا كلنا قبل سنوات عن محنة المسجد البابري في الهند، هذا السلطان هو من بنى ذلك المسجد، ونسمع عن التحفة المعمارية الخالدة “تاج محل”، تلك الروضة التي شيدها السلطان “شاه جهان” تخليدًا لذكرى زوجته التي هام بها “ممتاز محل”، وبقي يبكي عليها بعد موتها، وتنازل عن ملكه؛ هو أحد أحفاد هذا السلطان “بابر”.

ربما كان تحالفه مع الصفويين عندما هُزم -رغم أنه على المذهب الحنفي- هو من أسقطه في أعين بعض المؤرخين لدينا، بيد أنه فكّ الارتباط عنهم، بعد أن اكتشف خبثهم في قتل علماء السنة في بخارى وسمرقند، فخرق التحالف معهم، ورحل إلى عاصمة ملكه مدينة كابل هناك، واتجه بعدها إلى الهند، لينشئ دولة عظيمة مترامية الأطراف، استمرت في أبنائه وأحفاده زهاء ثلاث قرون، وغدت تمتد في رقعتها المترامية الأطراف من “جيحون” إلى “البنغال”، ومن “الهملايا” إلى “چندري” و”كواليار”، بما قام به أولاده وأحفاده من بعده من فتوحات، حتى خضعت لهم شبه القارة الهندية كلها.

يكتب المؤرخ عبدالمنعم النمر في كتابه “تاريخ الإسلام في الهند” عنه، ويقول: “(ظهير الدين بابر) يعتبر في نظر التاريخ أحد العظماء الذين يندر وجودهم، لا في الناحية العسكرية فحسب، بل في كل ناحية من نواحي حياته، وهذا سرّ عظمته النادرة. فقد تغلب على جيوش (اللودهي) باثني عشر ألفًا من الجنود”.

ويكمل المؤرخ النمر: “وكان مع نبوغه العسكري نابغة في مختلف العلوم، حتى ذكر المؤرخون عنه أنه كان حنفي المذهب مجتهدًا، ألّف عدة كتب في علوم مختلفة: في العروض وفي الفقه، وكتابه فيه يسمى (المبين)، كما اخترع خطًا سُمّي باسمه، كتب به مصحفًا وأهداه إلى مكة المكرمة. وكان مع ذلك أديبًا رقيقًا، يقرض الشعر بالتركية والفارسية، ومن أهم آثاره التي تركها مذكراته التي كتبها بنفسه عن حياته، وقد كتبها في صراحة تتجلى فيها شجاعته النفسية أمام كثير من الحقائق التي ذكرها عن نفسه وقد كتبها باللغة التركية”.

“مذكرات بابر” التي أشار لها المؤرخون؛ بقيت مكتوبة باللغة الفارسية فقط، وكان عمالقة التأريخ العربي من الأكاديميين العرب؛ يتحسّرون على عدم وجود ترجمة عربية لها، إذ كتبت بالفارسية، وترجمت وقتها للتركية، ثم بعد ذلك للغات الإنجليزية والفرنسية والروسية، ولم تترجم للغة العربية إلا قريبًا (في عام 2003م)، على يد الدكتورة ماجدة مخلوف، أستاذة الدراسات التركية في جامعة عين شمس بمصر، وطبعته تحت عنوان: “تاريخ بابر شاه.. وقائع فرغانة”، وللحقيقة أن ثمة كتبًا عديدة لعلماء وقادة ومفكرين، تعبر كنوزًا تأريخية، لم تترجم إلى اللغة العربية، بل بقيت على لغتها التركية أو الفارسية أو الروسية، ما يجعلني أهيب بمعهد طشقند للغة العربية، وغيرها من الجامعات الأوزبكية التي تهتم بالتراث والتاريخ، المبادرة لترجمة هذه الكنوز إلى اللغة العربية، فنحن بمسيس الحاجة للتواصل المعرفي، بعد القطيعة الكبيرة إبان الاحتلال الروسي، القيصري منه والشيوعي، بين العالم العربي وعموم الجمهوريات الإسلامية هنا، وفي مقدمتهم أوزبكستان عمق ودرة آسيا الوسطى، ويتأكد رجائي هنا وأنا أسوق آراء المستشرقين الذين اطلعوا على هذه المذكرات التي تأخرت ترجمتها كثيرًا.

“جوستاف لوبون” المؤرخ وعالم الآثار الفرنسي، كتب عن هاته المذكرات قائلًا:

“فعدّت مذكرات (بابر) التي شبهت بتفاسير يوليوس قيصر؛ نموذجًا حسنًا في الآداب، ولا شيء يشمل النظر أكثر من تجلي حقيقة مؤسّس الدولة المغولية في الهند (بابر) في مذكراته تلك، ف(بابر) هذا الجبار الذي هو سليل جنكيز خان وتيمورلنك سار على سنة أجداده، فأقام أهرامًا من الرؤوس المقصولة، ومع تبصّره وجبروته هذا؛ كان أديبًا رقيقًا يتكلم الفارسية والمغولية والعربية، وله قصائد بالفارسية، وكان صبورًا على مطالعة كتب العلوم والآداب والتاريخ. حقًا إن (بابر) الموهوب العالم، الذي يعدّ من أقوى الفاتحين في العالم، كان يجمع في شخصه مغامرة عرقه ورقته وهمجيته، فكان حينما مات -وهو ابن خمسين سنة تقريبًا- ملك الهند الذي دوخها باثني عشر ألف مقاتل، بعد أن كان زعيم قرية، وهو في الثانية عشرة من عمره”.

المقالة لا تتسع لسرد كل ما كتبته في كتابي الجديد عن تلك المملكة التيمورية في شبه القارة الهندية -المؤرخون البريطانيون سموها المملكة المغولية وتبعهم باقي المؤرخين في وصف تلك الدولة- ولكن لا بد من الإشارة إلى أحد أعظم سلاطين وملوك الإسلام، وهو “أورنك زيب” حفيد “ظهير الدين بابر” وابن “شاه جهان” الذي أخذ الملك من أبيه الذي انعزل يبكي زوجته “ممتاز محل”، ويعيد الهيبة للدولة بعد أن ضعفت، وتبدّدت أموالها في بناء الضريح الخالد، وأعاد “أورنك زيب” رونق الإسلام وقوته وألقه وصفاءه مرة أخرى في تلك البلاد، وتلك قصة مشوقة وحكاية عظيمة، ليس مكانها هنا، ولربما أقتطف بعضًا مما كتبه الأديب الفقيه الشيخ علي الطنطاوي(فقيه وأديب سوري) في مقالة طويلة له، عن “أورنك زيب” حفيد الملك “بابر”، حيث قال:

“حكم الهند كلها خمسين سنة كوامل، وكان أعظم ملوك الدنيا في عصره، وكانت بيده مفاتيح الكنوز، وكان يعيش عيش الزهد والفقر، ما مدّ يده ولا عينه إلى حرام، ولا أدخله بطنه، ولا كشف له إزاره، وكان يمرّ عليه رمضان كله لا يأكل إلا أرغفة معدودة من خبز الشعير، من كسب يمينه من كتابة المصاحف لا من أموال الدولة! هذا هو الملك الذي قلت إنه كان بقية الخلفاء الراشدين”.

جولة في التأريخ، من عمق المدينة المشمسة أنديجان، أرجو أنكم عشتموها معي.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى