أخبار عالميةأخر الأخبار

الغطرسة أم عدم الكفاءة تسببت بانهيار “سيليكون فالي بنك”؟

اقتصادنا – وكالات

لا يُفترض أن تنهار البنوك، وإذا تكرر هذا الإخفاق فسيتعطل أحد أهم المفاصل الجوهرية في المنظومة الاقتصادية، وهو تحويل الودائع -وهي التزامات- إلى قروض، أي أصول.

نحن نعتمد على إغواء الإقراض الذي يشمل كل شيء، من تأجير السيارات وشراء المنازل إلى تمويل ميزانيات المدن. لهذا حين ينهار مصرف تصبح معرفة ما حدث وضمان عدم تكرار الأخطاء نفسها مرة أخرى ضرورة حتمية.

في حالة مصرف “سيليكون فالي بنك” (Silicon Valley Bank)، الذي كان سقوطه مدوياً، يسهل إدراك السبب المحدد لحدوث ذلك لاحقاً. حين كانت الودائع تتدفق على المصرف خلال تفشي الجائحة، اشترى سندات بعشرات مليارات الدولارات قبل أن يبدأ “الاحتياطي الفيدرالي” برفع أسعار الفائدة لمكافحة التضخم.

تعرضت قيمة تلك الحيازات مع ارتفاع الفائدة لخسائر فادحة، فوقع المصرف في ورطة كبيرة. عندما حاول المصرف في 9 مارس بث الثقة عبر جمع الأموال، جاءت النتائج مخالفة لمسعاه، إذ تخارج المودعون بأعداد كبيرة، وهو أمر تقليدي يمكن أن يشهده أي بنك.

في اليوم التالي، كان على الجهات التنظيمية أن تسيطر على المصرف وأن تتخذ تدابير طارئة للحيلولة دون تحوّل هذا الانهيار المفاجئ إلى كارثة مالية أوسع نطاقاً.

نظراً إلى أن أموراً محدودة لها أهمية أساسية للغاية بالنسبة إلى الخدمات المصرفية، مثل إدارة حساسية سعر الفائدة، أو مدة الأصول والالتزامات، فإنّ أفضل التفسيرات لما حدث في “سيليكون فالي بنك” قد يكون الغطرسة أو عدم الكفاءة.

إنفوغراف: كيف تغيّر التصنيف الائتماني لـ”سيليكون فالي بنك”؟

شريان حياة
لكن وراء هذا الفشل المصرفي سبب أكثر عمومية، قد تكون له تداعيات بعيدة المدى، وهو أن يكون انهيار “سيليكون فالي بنك” جزئياً جاء نتيجة كونه صنيعة استدرار المال الكاسح في الاقتصاد الأميركي، أي هجرة الأموال من الأسواق العامة في العقد الثاني من هذا القرن وصعود ما يسمى بالأصول البديلة وتركُّز الهيمنة في أيدي جيل جديد من كبار رجال الأعمال.

كما يدلّ اسمه، تأسس “سيليكون فالي بنك” بهدف تلبية احتياجات صناعات التقنية والصناعات القائمة على علوم الحياة التي نشأت في شمال كاليفورنيا. شكّلت هذه المهمة جلّ ما فعله المصرف على مدى 20 عاماً خلت، فقد قدم قروضاً وخطوط ائتمان متجددة وخدمات عديدة مثل إدارة النقد للشركات الناشئة في مجال الاتصالات والبرمجيات والتقنية الحيوية والأجهزة الطبية.

عايشت عائدات المصرف مدّ وجزر تدفقات نشاط الشركات في المنطقة، فقد ازدهر في أواخر التسعينيات، ونجا من أزمة الإنترنت، ثم ازدهر مع استعادة التقنية سحرها في منتصف العقد الأول من هذا القرن.

بالنسبة إلى المصرفيين الذين يحتاجون إلى أعمال جديدة، لم تكن هناك شبكة أفضل من شركات رأس المال الجريء، التي كانت شريان حياة شركات التقنية والتقنية الحيوية في مراحلها المبكرة، إذ تمكّنت من التحكم بالوصول إلى الآلاف من مسؤولي إدارة الأمور المالية للشركات.

انضم غريغ بيكر إلى “سيليكون فالي بنك” في 1993 ليكون أحد المصرفيين الذين يخدمون شركات رأس المال الجريء. بحلول 2011، حين أصبح رئيسه التنفيذي، كان هناك تحوُّل جارٍ، فقد بدأت كل من شركات رأس المال الجريء وشركات الملكية الخاصة (وهي من أشباه شركات رأس المال الجريء حين تدخل مرحلتها اللاحقة في عالم الاستثمارات البديلة) تحلّ محلّ شركات التقنية باعتبارها أكبر عملاء للمصرف.

لا غرابة في ذلك، فعندما ارتفع إجمالي جمع الأموال للاستثمارات في الأسواق غير العامة إلى 1.18 تريليون دولار في 2021 مقارنة مع 96 مليار دولار في 2003.

كان هناك عديد من الطرق التي تمكّن من خلالها مقرض مثل “سيليكون فالي بنك” من خدمة هذه المنظومة المالية المتنامية، فقد تحتاج شركة الملكية الخاصة إلى أن تموّل عملية استحواذ برافعة مالية، أو لتحويط عملة لتأمين سعر صفقة ما أو مكان لإيداع عائدات بيع أصول.

كانت شركات رأس المال الجري بحاجة مستمرة إلى كوادر مصرفية لإدارة الطروحات العامة الأولية للشركات التابعة لمحافظها أو لبيعها لجهات استحواذ.

قد يرغب مسؤول تنفيذي، ينعم بأرباح صندوق من الفئة الممتازة، بالاستعانة بمصرفي خاص للتخطيط الضريبي أو لترتيب رهن عقاري لمنزل بملايين الدولارات. قال بيكر في مؤتمر عبر الهاتف في يناير 2021: “إذا استطعنا توفير مكان واحد يلبي جميع احتياجات عملائنا، من خلال أداء استثنائي وليس مجرد أداء جيد، فما الذي قد يدفعهم ليذهبوا إلى أي مكان آخر؟”.

“الفيدرالي” يدرس تشديد قواعد البنوك بعد انهيار 3 مصارف

اكتمال التحوّل
حين انهار “سيليكون فالي بنك” كانت عملية التحول قد اكتملت. كان نحو 70% من قروض المصرف غير المسددة، وقد بلغت 76 مليار دولار، تعتمد كلياً أو جزئياً على شركات الملكية الخاصة أو رأس المال الجريء لسدادها.

لم يكن المقترضون بحاجة إلى المال، على الأقل ليس بالمعنى التقليدي، لكن المصرف كان على استعداد لتقديم قروض مقابل الالتزامات الاستثمارية لشركاء محدودين، مثل صناديق خطط التقاعد والهبات.

تستخدم شركات الملكية الخاصة وشركات رأس المال الجريء التسهيلات الائتمانية هذه لتحسين العوائد من خلال تيسير تحقيق نتائج كبيرة في السنوات الأولى للتمويل. أعادت هاتان المجموعتان من الشركات العائدات من خلال إيداع أموال في “سيليكون فالي بنك” بلغت نحو 36 مليار دولار حتى 31 ديسمبر الماضي. بدا الأمر كأنه حلقة حميدة.

إننا ندرك الآن أن تبادل المنفعة صنَع شيئاً آخر تماماً، فقد كان خطراً وجودياً لم يتبيَّنه بيكر وفريق إدارته، أو أنهم لم يفهموه، كما أن الجهات التي تنظم عمل البنوك لم تفطن إليه. تبيّن أن تركيز مجموعة ممولين متضافرة للأصول والالتزامات في جهة واحدة خدم “سيليكون فالي بنك” لفترة طويلة وكان أيضاً ما جلب انهياره.

ماذا يعني انهيار “سيليكون فالي بنك” للمصرف وعملائه؟

سوء تقدير
مع تهاوي الأسهم في 2022، تباطأ استثمار رأس المال الجريء، فاضطرت الشركات الناشئة، التي كان عديد منها يستنفد النقد بشكل متسارع، إلى أن تسحب المال من حساباتها المصرفية، فانخفضت الودائع في “سيليكون فالي بنك” لأول مرة منذ نحو أربع سنوات.

قللّ بيكر من المخاوف حين أمطره محللون بالاستفسارات في يوليو، وأجاب: “كثير من المال متوفر… عندما يكون هناك مزيد من الشركات الجيدة، فسيستمر توظيف هذا المال من وجهة نظري بسرعة”، إلا أن الودائع واصلت انخفاضها، وفي 24 فبراير كشف “سيليكون فالي بنك” أن الخسائر غير المحققة على استثماراته في السندات في فترة الجائحة كانت كافية تقريباً لشطب حقوق الملكية في ميزانياتها العمومية، وسرعان ما أفضى ذلك إلى النهاية.

عادة ما يضم نظام المودعين في مصرف نموذجي أميركي بحجم “سيليكون فالي بنك” الملايين من أصحاب الأموال القليلة بما يكفي للاستفادة من غطاء التأمين الفيدرالي البالغ 250 ألف دولار. على سبيل المثال، لدى مصرف “فيفث ثيرد بنك” (Fifth Third Bank)، الذي يتخذ في سينسيناتي مقراً، 6.17 مليون حساب من هذا القبيل. لأن مثل هذه البنوك كثير جداً، ولأنها محمية، يتطلب الأمر وقتاً كبيراً قبل أن يثير قدراً من الذعر يربك مؤسسة مالية كبرى.

في حالة “سيليكون فالي بنك” يغطي التأمين 6% فقط من الودائع. لأن عملاءه كانوا من الوزن الثقيل وذوي معرفة وغير محميين في الغالب، فقد تصرف عديد منهم بشكل مختلف.

لم تتردد الشركات التي عمل البنك على استقطابها على مدى عقود بسحب أموالها فوراً، فقد كان كل من “فاوندرز فند” (Founders Fund) و”كوتو مانجمنت” (Coatue Management) و”يونيون سكوير فنشرز” (Union Square Ventures) و”فاوندر كوليكتيف” (Founder Collective) من بين المؤسسات التي نصحت شركات تابعة لمحافظها بسحب أموالها.

جاء في أمر الحجز الصادر عن الجهة الناظمة للبنوك في كاليفورنيا في 10 مارس أن “سحب الودائع السريع جعل المصرف غير قادر على سداد التزاماته في مواعيد استحقاقها، وقد أصبح المصرف الآن معسراً”.

يشير أحد التقديرات إلى أن مديري رؤوس الأموال الخاصة بجميع أشكالها، سواء رأس المال الجريء أو أسهم النمو أو الملكية الخاصة أو الدَّين الخاص أو البنية التحتية أو الموارد الطبيعية، يشرفون على أصول بأرقام قياسية بلغت 8.9 تريليون دولار، ولم يسبق أن كانت سطوتهم على الاقتصاد أعظم، وقد يؤثر ذلك بطرق غير متوقعة ومُقلقة.

أصبحت الحال أشبه بالمقولة السائدة: “يأتي مقترض يائس مفلس لا يجد ما يسدد به الإيجار ليرجو الرحمة من مصرفي”. في الساعات الأخيرة قبل انهيار “سيليكون فالي بنك”، كان بيكر هو من يناشد المودعين أن “يلتزموا الهدوء”.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى