أخبار عالميةأخر الأخبار

سقوط “سيليكون فالي بنك” يظهر مخاطر سندات الخزانة الأميركية

اقتصادنا – أميركا

إذا بحثنا عميقاً في أسباب الأزمة المصرفية الأخيرة التي عصفت بالولايات المتحدة، فقد يفاجئ السبب الحقيقي كل من لا يزال يعتقد أنها كانت تكراراً لما حدث إبان أزمة 2008 المالية. لم يكن تقييم قروض رديئة لمشتري منازل فقراء وراء انهيار “سيليكون فالي بنك”. لقد كان البنك سالف الذكر بمثابة مخبأ لما يُعتقد أنه أكثر الأوراق المالية أماناً على وجه المعمورة: سندات الخزانة الأميركية.

بالطبع كانت سندات الدَّين الحكومية آمنة للغاية لاعتبار بالغ الأهمية، وهو أن الولايات المتحدة تتمتع بأفضل تصنيف للجدارة الائتمانية عالمياً، ما يضمن عدم تخلفها عن السداد. لِنُنَحِّ جانباً كارثة سقف الدَّين الأميركي التي تلوح في الأفق، والتي سننتقل لمناقشتها بعد قليل. لكن أجل الاستحقاق النهائي لسندات الخزانة التي يمتلكها “سيليكون فالي بنك” كان سيحل بعد سنوات من ذلك.

تكمن المشكلة في تقلب أسعار هذه السندات حالياً. لطالما كانت سندات الخزانة طويلة الأجل عرضة لفقدان القيمة لدى إعادة البيع الفورية مع ارتفاع أسعار الفائدة، بالنظر إلى شرائها خلال فترة تدنت فيها أسعار الفائدة بشدة، وهو ما فعلته إدارة البنك المنهار بكثافة خلال العام الماضي.

تناسب عكسي
كان مجلسالاحتياطي الفيدرالي قد رفع أسعار الفائدة بأسرع وتيرة منذ عقود لترويض التضخم، إذ ارتفع سعر الفائدة الرئيسي من صفر تقريباً إلى ما تراوح بين 4.75% و5%، فتحركت أسعار سندات الخزانة نزولاً، كونها تتناسب عكسياً مع أسعار الفائدة. تُعَدّ تلك مشكلة فورية لمن يريد بيع سندات الخزانة قبل أجل استحقاقها، وقد كان مصرف “سيليكون فالي بنك” من بين هؤلاء لسوء الحظ.

فبدأ القلق يساور عملاءه الذين تخطت أرصدة عديد منهم حد تغطية المؤسسة الفيدرالية للتأمين على الودائع، وهو 250 ألف دولار، بالتالي اتجهوا لسحب أموالهم من المصرف المأزوم. لم يكن بوسع “سيليكون فالي بنك” سوى بيع حيازاته من سندات الخزانة وسندات الرهن العقاري المدعومة من الوكالات الحكومية بخسائر فادحة، فانهار البنك في غضون أيام.

قال بول ماكولي، كبير الاقتصاديين السابق لدى شركة “باسيفيك إنفستمنت مانجمنت” لإدارة الاستثمارات: “دائماً ما نشير إلى سندات الخزانة باعتبارها أكثر الأصول أماناً حول العالم. هذا من منظور الجدارة الائتمانية، لا من حيث استقرار الأسعار. يوجد فرق كبير بين الأمرين”.

قالت كيم فورست كبيرة مسؤولي الاستثمار لدى شركة “بوكيه كابيتال بارتنرز”، ومقرها مدينة بيتسبرغ، إنها لم تستوعب كيف أخفق مصرفيو “سيليكون فالي بنك” برصد المخاطرة التي انطوى عليها طول أجل الاستحقاق، وأضافت: “إنه أمر محير نوعاً ما. كان عليهم أن يدركوا التغيرات التي ستطرأ على هذه السندات وقراءة المؤشرات بالنظر إلى التوقعات بارتفاع أسعار الفائدة. فما الذي حدث حقاً؟ ألم يستطع الأشخاص الذين يُفترض بهم أن يكونوا عباقرة وادي السيليكون من تجميع تلك الخيوط معاً وإجراء بعض الحسابات البسيطة؟”.

شروط سخية
صحيح أن معظم البنوك ليس لديها عدد كبير من ودائع شركات التقنية الناشئة القلقة وغير المؤمنة كما كانت حال “سيليكون فالي بنك”، إلا أن المقرضين الأميركيين يمتلكون ما تتجاوز قيمته 4 تريليونات دولار من الأوراق المالية المدعومة من الحكومة.

كانت سندات الخزانة قد سجلت العام الماضي أسوأ خسائرها منذ أوائل السبعينيات على الأقل، إذ هبطت قيمة السندات الأطول أجلاً بنحو 30%. يُعَدّ هذا أحد أسباب عدم زوال الخوف من تمدد عدوى الانهيارات لتطال مصارف أخرى، حتى بعد التدخل السريع من قِبل وزارة الخزانة ومجلس الاحتياطي الفيدرالي والمؤسسة الفيدرالية للتأمين على الودائع لتوفير حماية طارئة لجميع المودعين في بنكي “سيليكون فالي بنك” و”سيغنتشر بنك” في نيويورك، الذي انهار في نفس الوقت تقريباً.

لم يقُل صناع السياسة على وجه اليقين ما إذا كان المقرضون الآخرون سيتمتعون بالغطاء التأميني ذاته أم لا. واستمر سحب الودائع هرباً من المصارف الإقليمية والصغيرة بشكل خاص.

أقرض الاحتياطي الفيدرالي المصارف الأميركية مليارات الدولارات في أعقاب انهيار “سيليكون فالي بنك” لضمان حمايتها من أزمات السيولة عبر سبل عدة، بما في ذلك برامج طوارئ جديدة قدمت شروطاً سخية للاقتراض بضمان سندات الخزانة والسندات الأخرى التي فقدت جزءاً من قيمها.

كان البنك المركزي، الذي لديه ما قيمته تريليونات الدولارات من أدوات الدَّين ذات العوائد المنخفضة التي صدرت في ظل تفشي الوباء، يعول بالأساس على تقليل المخاطر المرتبطة بأسعار الفائدة داخل النظام المصرفي بشكل أكبر.

مع ذلك، يمضي الاحتياطي الفيدرالي قدماً في تشديد السياسة النقدية، فرفع أسعار الفائدة بمقدار ربع نقطة مئوية أخرى في 22 مارس. ارتفعت أسعار السندات على أي حال لأن الأسواق ترجح أن ينحى جيروم باول رئيس الاحتياطي الفيدرالي وزملاؤه منحى مختلفاً، ذلك أن التزامهم المسار الحالي قد يؤدي إلى خسارة سندات الخزانة مزيداً من قيمتها، فتثير مشكلات أكثر لدى البنوك التي تبقي على حيازاتها منها.

أزمات مرتقبة
غير أن ارتفاع أسعار الفائدة ليس المشكلة الوحيدة في سوق سندات الخزانة البالغة قيمتها 24 تريليون دولار. يشكل القلق بشأن سيولة السوق معضلة قديمة أخرى بالنظر إلى مساهمتها في تيسير تنفيذ الصفقات بشكل أساسي.

يعتمد عديد من المؤسسات والشركات على سوق سندات الخزانة للعمل بسلاسة. مع ذلك، تسببت عوامل مثل الخوف وعدم اليقين بتقلبات تكاد تكون غير مسبوقة، إذ شهد بعض العوائد تقلبات هي الأكبر خلال 40 عاماً.

قال محللو بنك “جيه بي مورغان آند تشيس” الاستراتيجيون للعملاء في منتصف مارس إن السيولة “تعثرت بدرجة كبيرة” مع ارتفاع حجم تداول سندات الخزانة إلى مستوى قياسي بلغ 1.5 تريليون دولار في يوم واحد فقط.

تعددت تفسيرات مشكلة السيولة. على سبيل المثال، تضخمت ديون الخزانة بأكثر من 7 تريليونات دولار منذ نهاية 2019، وهناك اعتقاد سائد بأن حجم السوق فاق قدرة مجموعة المصارف التي تتعامل بديون ‏الحكومة الاتحادية في ما يتعلق بحفظ النظام في السوق سالفة الذكر.

بينما يقول كثيرون إن اللوائح التي فُرضت على البنوك في أعقاب أزمة 2008 المالية عاقت أيضاً قدرة المصارف الوسيطة على الاحتفاظ بما يكفي من السندات في متناولها لتتمكن من البيع والشراء دون عوائق، كان الاحتياطي الفيدرالي ووزارة الخزانة والجهات التنظيمية الأخرى يعملون لسنوات على صياغة إصلاحات مقترحة، لكن وقع التغيير كان بطيئاً.

في السياق ذاته، تلوح أزمة سقف الدَّين في الأفق مع احتمالية ألا يتوصل السياسيون إلى حل وسط بشأن رفع حد الاقتراض المفروض ذاتياً على الحكومة. فقد يؤدي الفشل في حل أزمة سقف الدَّين الأميركي، قبل نفاد سبل الخزانة لمواصلة تمويل الإنفاق الحكومي، إلى تعثر غير مسبوق في الدَّين العامّ للولايات المتحدة وتعطيل النظام المالي العالمي المعتمد على سندات الخزانة.

دفعت أزمة سقف الدَين في 2011 مؤسسة “إس أند بي غلوبال ريتينغز” العالمية إلى خفض تصنيف السندات الحكومية الأميركية من أعلى تصنيف للجدارة الائتمانية (AAA) بعد أيام من التوصل إلى اتفاق لرفع سقف الدَّين وتجنب التخلف عن السداد.

قد تكون النزاعات المتكررة في واشنطن حول حدود الدَّين أحد الأسباب التي جعلت المستثمرين في جميع أنحاء العالم يبدون اهتماماً أكبر بالبدائل المحتملة لسندات الخزانة الأميركية بوصفها ملاذاً آمناً لحفظ ثرواتهم. يتمثل السبب الآخر في شدة استخدام أميركا للعقوبات المالية، بما في ذلك تجميد أصول البنك المركزي الروسي بعد غزو أوكرانيا، الأمر الذي جعل بعض الدول التي تمتلك كثيراً من سندات الخزانة الأميركية تتساءل: هل يمكن أن يحلّ هذا بنا أيضاً يوماً ما؟

البدائل المطروحة
تشمل البدائل العالمية التي يُروَّج لها في بعض الأحيان مخازن القيمة المفضلة منذ القدم مثل الذهب، أو الوحدات النقدية الجديدة القائمة على سلال السلع، أو عملات الاقتصادات العملاقة الأخرى مثل اليوان الصيني، رغم صعوبة تقديم حجة مقنعة بأن أياً منها أفضل من سندات الخزانة الأميركية.

في غضون ذلك، يبدو أن السيولة النقدية هي الخيار الأفضل بالنسبة إلى عديد من المستثمرين الأميركيين الذين يسعون لحيازة أصول خالية من المخاطر. يُعَدّ الاحتفاظ في حساب مصرفي برصيد دون 250 ألف دولار، وهو الحد الأقصى للتغطية من قِبل المؤسسة الفيدرالية للتأمين على الودائع، خياراً موثوقاً. مع ذلك، كان عديد من المدخرين الأفراد والمؤسسات، على حد سواء، يبحثون عن خيارات أخرى خلال الأشهر الماضية مثل صناديق الاستثمار الأميركية ذات العوائد المرتفعة التي اجتذبت للتو أكبر تدفق أسبوعي للأموال منذ بداية الوباء.

تستثمر هذه الصناديق بكثافة في سندات الخزانة لكن بآجال استحقاق قصيرة للغاية تقيها المخاطر المرتبطة بأسعار الفائدة إلى حد كبير. بالتالي، يمكن لتلك الصناديق الاستمرار في تجديد آجال استحقاق حيازاتها من السندات ودفع العوائد المرتفعة الجديدة للمستثمرين حال ارتفاع أسعار الفائدة.

تتوقف شدة التقلبات التي يخبئها المستقبل لسندات الخزانة من جهة، ومقدار الضرر الذي سيعانيه النظام المالي نتيجة لذلك من جهةٍ أخرى، في الغالب على الاحتياطي الفيدرالي.

يشير التاريخ إلى أن البنك المركزي الأميركي لديه سجل سيئ عندما يتعلق الأمر بتنفيذ تحوُّل كبير في السياسة دون تحفيز انهيار آخر. يُعَدّ “سيليكون فالي بنك” أول مثال إيضاحي لهذه الأزمة.

يتذكر ماكولي الانهيار الذي عصف بقطاع الادخار والإقراض الأميركي خلال الثمانينيات، حينما أفلس صغار مقرضي الرهن العقاري جزئياً جراء التعرض لنفس نوع المخاطر المرتبط بالاستثمار في الأصول طويلة الأجل، التي تراكمت في الميزانيات العمومية للمصارف اليوم.

أشار كبير الاقتصاديين السابق لدى شركة “باسيفيك إنفستمنت مانجمنت” لإدارة الاستثمارات إلى أن الاحتياطي الفيدرالي كان يرفع أسعار الفائدة بأسرع وتيرة عندما أشرف رئيسه السابق بول فولكر على سياسات مكافحة التضخم.

قال ماكولي إن سؤاله الرئيسي لمجلس الاحتياطي الفيدرالي هو: “في العام الماضي كنتم تسيرون على درب بول فولكر، فما الحد الذي ستقف عنده سياسة رفع أسعار الفائدة؟”.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى